تعامل المسلم مع القرآن

05 مايو 2021 11:18

هوية بريس – عبد العالي الضريف

 مقدمة:

قال تعالى: ” كتابٌ أنزلناه إليك لِتُخْرِجَ الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ” (إبراهيم:1) . فالقرآن كتاب هداية وإرشاد،إلى أفضل غاية وأقوم طريق ” إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ” (الإسراء:9) . ويحُلّ للناس ” لُغْزَ الحياة ” ويضع في مُتناول أيديهم منهج الحياة الأمثل لبلوغ الغاية من الإيجاد و حسن تصريف نعم الإمداد من الخالق جل وعلا.

ولم يوجد في الدنيا كتاب ديني أو دنيوي حفظ من التحريف والتبديل ، كما حفظ هذا القرآن ، وإن أحدا لا يستطيع أن يزيد فيه حرفا أو يخرم منه حرفا (1).

ولم يعرف في الدنيا كتاب يحفظه الألوف وعشرات الألوف عن ظهر قلب ، إلا القرآن الذي يسره الله للذكر والحفظ (2).

والقرآن هو نور من الله لعباده إلى جوار نور الفطرة والعقل ” فآمنوا بالله ورسوله والنورالذي أنزلنا ”

(التغابن:8) .

وللقرآن خصائص تميزه عن غيره ، فهو كتاب إلاهي، وهو كتاب معجز، وكتاب مبين ميسر، وهو كتاب الدين كله ، والزمن كله والإنسانية كلها .

كما أن لهذا القرآن مقاصد وأهدافا يسعى إليها ، ويحرص عليها ، من تصحيح العقائد والتصورات عن الأ لوهية والنبوة والجزاء ، وتصحيح التصور عن الإنسان وكرامته ورعاية حقوقه . كما يحرص على وصل الإنسان بربه ، ليعبده وحده ويتقيه في كل أموره .

وكذلك على تزكية نفسه التي إذا صلحت ىصلح المجتمع كله ، وإذا فسدت فسد المجتمع كله (3).

فكيف ينبغي للمسلم أن يتعامل مع كتاب الله ، وما الهدف الذي يجب أن يسعى وراءه ويضعه نصب عينيه وهو يحث السير نحو تحقيق هذا المطلب السامي في حياته ؟

للتعامل السليم مع كتاب الله عز وجل لابد للمسلم أن يسلك لبلوغ ذلك السبل الآتية :

1.الإيمان العميق :

قال الله تعالى واصفاً المتّقين: ” والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك ” (البقرة:4) وقال تعالى عن القرآن: ” ومَنْ يَكْفُرْ به فأولئك هم الخاسرون ” (البقرة:121) فالإيمان به هو اعتقاد أن جبريل أنزله بأمر الله من اللوح المحفوظ على قلب سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام ، وأنه ليس من قول البشر، وأنه كله الحق ومحفوظ من أن يُحَرَّف ولو حرفاً منه .

ويؤمن بأنّ القرآن الكريم إنّما أُنزِل، ليُنظَر في آياته، ويُعمل بما جاء فيها، وهذا الإيمان هو المقصود في قول ابن عمر رضي الله عنهما: ( لقد لبِثنا بُرهةً من دهرٍ وأحدُنا ليؤتَى الإيمانَ قبل القرآنِ، تنزلُ السورةُ على محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلم فنتعلمَ حلالَها وحرامَها وأمرَها وزاجِرَها وما ينبغي أنْ يوقفَ عنده منها كما يتعلمُ أحدُكم السورةَ ، ولقد رأيتُ رجالًا يؤتَى أحدُهم القرآنَ قبل الإيمانِ، يقرأُ ما بين فاتحتهِ إلى خاتمتهِ ما يعرفُ حلالَه ولا حرامَه ولا أمرَه ولا زاجِرَه ولا ما ينبغي أنْ يوقفَ عنده منه وينثرهُ نثرَ الدَّ قْلِ)(4) وهذا النوع من الإيمان هو الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم إلى المُبادرة إلى تعلُّم السُّوَر، والعمل بما جاء فيها فَور نزولها.(5)

2.الاهتمام بالقرآن والعناية به:

ويمكن تحقيق ذلك من خلال الإكثار من تلاوة القرآن الكريم، وتدبُّر مَعانيه، والاستماع إليه بخشوع وحضور قلب؛ لأنّه يُرشد إلى طريق الهُدى؛ قال تعالى مثنيا على من كان دأبه الإكثار من التلاوة : ” يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ” (آل عمران: 113).

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر” لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار”(6).

ومن صميم العناية بالقرآن الكريم نذكر مايلي :

التلاوة : فقد أمرنا الله بقراءته: ” فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ” (المُزَّمِّل:20)، وأن تكون بالتجويد كما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ” ورتِّل القرآن ترتيلاً ” (المزمل:4).” إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سا وعلانية يرجون تجارة لن تبور”  (فاطر:29) .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به ، مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ، له أجران “(7).

وهذه التلاوة على مستويين:

أ‌ الورد اليومي: وكان كثير من السلف الصالح يكرهون أن يمضي على المسلم يوم لا ينظر في مصحفه. فلا بد من الختمة (من أول القرآن إلى آخره) على مدار أيام السنة بتحديد حد أدنى كخمس صفحات أو أقل أو أكثر يومياً.

عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” يقول الرب تبارك وتعالى : من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه “(8).

ب‌. التأمل والتدبر:

من أعظم آداب التلاوة الباطنة : التدبرلمعاني القرآن . ومعني التدبر: النظر في أدبار الأمور، أي في عواقبها ومآلاتها ، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر : تصرف القلب أو العقل بالنظر في الدليل ، والتدبر: تصرفه بالنزر في العواقب (9).

يقول تعالى :” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ” (محمد:24) وقوله تعالى : ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير االله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ” (النساء:82) .

ومقدار تلاوة التأمل والتدبر غير محدد فقد تكون آية واحدة، وقد تكون في الصلاة، وقد يكون التأمل بسماع التلاوة من آخرَ أو في إذاعة.

والمتأمل في القرآن يجده زاخرا بجوامع الكلم ، وجواهر الحكم ، وكنوز المعارف ، وحقائق الوجود ، وأسرار الحياة ، وعوالم الغيب ، وذخائر القيم ، وروائع الأحكام ، وعجائب التوجيه ، وغرائب الأمثال ، وبينات الآيات ، وسواطع البراهين ن وبالغ النذر . ولذا قالوا : إن في القرآن علم الأولين والآخرين . وقال أبن عباس : لو ضاع لي عقال بعير ، لوجدته في كتاب الله (10).

وينبغي لمن يريد أن يتدبر القرآن ويتفهمه أمر آخر ، وهو ما أسماه الغزالي : ( التخلي عن موانع الفهم) ، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم ، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن .

وحجب الفهم أربعة :

أولا : أن يكون الهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها ، فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف ، فأنى تنكشف له المعاني ؟

ثانيا : أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد ، وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع ، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة ، فهذا شخص قيده معتقده على أن يجاوزه .

ثالثا : أن يكون مصرا على ذنب أو متصفا بكبر، أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع ، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه ، وهو كالخبث على المرآة فيمنع جلية الحق من أن يتجلى فيه ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة .

رابعا : أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار . فهذا أيضا من الحجب العظيمة (11).

 الحفظ : في الحديث النبوي ” إنَّ الذي ليس في جَوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخَرِب” رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. والحفظ على درجتين:

أ‌.  حفظ كل القرآن الكريم.

ب‌. حفظ سُور مختارة ومقاطع تكثر حاجتُه إلى ما فيها من عِبرة، أو عقائد وأحكام، أو رُقْية.

 

الفَهْم: فالاهتداء بالقرآن الكريم لا يكون إلا بعد فهم هَدْيه، قال الله تعالى: ” إنَّ في ذلك لَذِكرى لمن كان له قلب أو أَلْقَى السمعَ وهو شهيد “( ق:37). والفهم على درجتين:

أ‌. فَهم المعاني الواضحة لألفاظ القرآن، والأحكام التي تفيدها جُمَلُهُ كما فهمها المفسرون والفقهاء  في الكتب المختصرة للتفسير.

ب‌. الفهم العميق لمعاني الآيات، وجماليات الألفاظ ، والحكمة من استخدام لفظ دون آخرولو كان مرادفا له في موضعين من القرآن يبدوان متطابقين، ومعرفة الإشارات الخفية والإعجازفي مختلف تجلياته .

الاستماع له : إذا كان القرآن الكريم يتعبد بتلاوته ، فإنه يتعبد أيضا بسماعه ، وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استمع إلى القرآن من الصحابة .

واستمع ذات ليلة إلى عبد الله بن مسعود ، ومعه أبو بكر وعمر، فوقفوا طويلا ، ثم قال : ” من أراد أن أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد “(12) .

ومن الآداب المتعلقة بالاستماع : الإنصات والإصغاء عندما يتلى القرآن ، مصداقا لقوله تعالى ” وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ” ( الأعراف : 204) ، ومعنى الإنصات : السكوت مع الاستماع .

 العمل به: وهو ثمرة ونتيجة الإيمان بالقرآن وفهمه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيَهنّ والعمل بهنّ).

وروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر أن معنى “حق التلاوة ” في قوله تعالى: ” الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ” (البقرة:121) أي: يتّبعونه حق اتّباعه. والعمل بالقرآن على مستويين:

أ‌. عمل الفرد: كالإيمان، وأداء الصلاة، والزكاة، وحسن الخُلُق، والمعاملة الطيبة، وغير ذلك مما يستطيع الإنسان تطبيقه بمفرده ولو عاش تحت حكم غير إسلامي أو في مجتمع غير مسلم.

ب‌. عمل الأمة: وهو تحكيمه دستورا ًللدولة وتطبيق عدالته وتشريعاته، ونشر رحمته وبركاته في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والقضاء وكل نواحي الحياة ، كاملة دون تشديد أو تساهل . قال الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم : ” وأَنِ احكُمْ بينهم بما أَنزلَ اللهُ ولا تتّبعْ أهواءَهم واحذرهم أن يَفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ” (المائدة:49).

  1. وَضع القرآن الكريم في أعلى سُلَّم الأولويّات:

ويمكن تحقيق ذلك من خلال الاهتمام بالقرآن الكريم، وتخصيصه بأفضل وقت، وأطول فترة ممكنة؛ لأنّ القرآن يُعطي المسلم ويُكرمه على قَدر ما يُعطيه المسلم من اهتمام؛ قال تعالى : ” إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ “(سورة الواقعة :77) (13).

4.تعظيم القرآن الكريم وتنزيهه:

يقول الإمام النوويّ إنّ إجماع المسلمين حاصلٌ في وجوب تعظيم القرآن الكريم، وتنزيهه، وصيانته عن أيّ امتِهان.(14) ويكون تعظيم القرآن الكريم من خلال تحقيق أمور عدّة، ومنها ما يأتي:(15)

←الحرص على الطهارة عند قراءة القرآن؛ فلا يقرأ إن كان جُنُباً، أو في حال الحَيض للنساء، كما يُستحَبّ أن يسأل الله تعالى الجنّة عندما يَمرّ بالآيات التي تتحدّث عنها، ويستعيذ به من النار عند مروره بالآيات التي تذكرها، ويسجد في آيات السجود، و يعترف لربّه بما يُقرِّره لنفسه في كتابه.

←الحرص على أن يكون المكان الذي يُقرَأ فيه القرآن مُؤهلّاً لذلك؛ فقد كَرِه العلماء القراءة في مكان قضاء الحاجة، وكرهوا أيضاً القراءة لِمَن أكلَ بَصَلاً، أو ثَوماً حتى تذهب رائحته، أو حال قضاء الحاجة؛ لِما في ذلك من الفُحش؛ بهدف تعظيم الله تعالى، واحترام كلامه، وإكرام ملائكته؛ لأنّ الملائكة تتأذّى مِمّا يتأذّى منه بنو آدم، كالنجاسة، والقذارة، والروائح الكريهة، ومِن ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأُسَيد بن حضير رضي الله عنه عندما أخبرَه أنّه قرأ القرآن ووَجَد مثل الظُلّة عنده؛ فقال: ” تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآنِ “.(16) (17)
←الحرص على حِفظ كتاب الله تعالى، وتعظيم أهله، وحِفظ حدوده، وتعلُّم حلاله وحرامه، وتطبيق أحكامه، والحِرص على تعلُّمه، وتعليمه.(18)

←الحرص على استقبال القبلة، والجلوس بخشوع وسكينة ووقار في غير الصلاة.(19)

احترام القرآن الكريم: ويمكن أن يُحقّق القارئ ذلك من خلال تجنُّب النَّظَر إلى ما مِن شأنه أن يُلهيَ قلبَه، وتجنُّب العَبَث بأيّ شيء، والانتهاء عن الضحك، وتجنُّب اختلاط الأصوات، أو الكلام إلّا في حال الاضطرار إلى ذلك، مُتمثِّلاً قوله تعالى: ” وَإِذا قُرِئَ القُرآنُ فَاستَمِعوا لَهُ وَأَنصِتوا لَعَلَّكُم تُرحَمونَ ” (سورة الأعراف:204). وهذا مَنهج الصحابة -رضوان الله عليهم- في التعامُل مع القرآن الكريم؛ فقد نُقِلَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان لا يقطع قراءته إلّا عندما ينتهي من القَدر الذي حدَّدَه ليقرأه.(20)

الإستياك عند قراءة القرآن الكريم : إذ يُستحَبّ لقارئ القرآن أن يُنظّف فمَه، وأسنانَه بالإستياك عند البدء بقراءته، ويجوز أن يُنظّف بعود الأراك، أو بغيره من العيدان، أو بفرشاة الأسنان، وغيرها.(21)

وحتى تتجلى هذه المعاني السابقة وتدخل في إطار الممكن المقدور عليه ببذل شيء من الجهد البشري

مع احتساب الأجر عند من لا يضيع عنده شيء سبحانه وتعالى ، نسوق نماذج ناصعة من بعض الصور المشرقة للتعامل مع القرآن من جيل الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والسلف الصالح رحمهم الله أجمعين .

فقد حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الإكثار من قراءة القرآن الكريم في أحوالهم جميعها، وحتى في المَجالس، والطرقات، وقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يتلو كتاب الله حين قُتِل، وكان المصحف في يَده،(22) وكان منهم مَن إذا قرأ الآيات االتي تتحدّث عن الفُجّار والجاحدين، حَمِد الله تعالى أنّه ليس منهم، وكانوا يقولون عندما يقرؤون قوله تعالى: ” وَآخَرونَ اعتَرَفوا بِذُنوبِهِم خَلَطوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتوبَ عَلَيهِم ” (سورة التوبة: 102). نحن منهم، وهو حال معظم الناس. فهناك مَن يحرص على أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها وعلى قراءة القرآن والإتيان بالأذكار والأوراد اليومية دون أن يحجزه ذلك عن التقحم في أتون الغيبة والنميمة ومزالق اللسان عامة بل مهلكاته ، وربما تعدى ذلك ليقع في منزلقات أخلاقية خطيرة .

وقد ضَرب السَّلَف أروع الأمثلة في تعاملهم مع القرآن الكريم، ومن أولئك تميم الداريّ رضي الله عنه الذي قضى الليل كلّه يركع، ويسجد، ويبكي في آية واحدة،وهي قوله تعالى : ” أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ” (سورة العنكبوت: 4) (23) وكان دَأبهم الحِرص على العمل بما عَلِموه من القرآن الكريم أكثر من حِرصهم على الحِفظ دون العمل بما حِفظوه، حتى أنّه نُقِلَ عن قُرَّاء القرآن الكريم، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهما، وغيرهما أنّهم كانوا كلّما تعلّموا عشرَ آيات من القرآن الكريم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يتجاوزوها إلّا بعد أن يتعلّموا ما فيها من العِلم والعَمل، وهذا ما نَقَله عنهم أبو عبد الرحمن السلميّ -رحمه الله-، ولذلك قالوا: ” تعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً “.(24)
إن تحلّي المسلم بقوّة الدِّين، والإيمان، واليقين يتأتّى بكثرة قراءة القرآن الكريم، وتدبُّره، وفَهمه، والاستماع إليه، والعمل بأوامره، واجتناب نواهيه،وذلك لأنّ مِن طبيعة الإيمان أنّه يزداد، وينقص، ولزيادته، وتقويته، وتنميته، لا بُدّ من الحرص على تدبُّر معاني آيات القرآن الكريم ، فزيادة الإيمان تُؤدّي إلى تَرك المعاصي، والأمور الفاسدة، ويُشار إلى أنّ سماع القرآن الكريم كان سبباً في إيمان الكثير من العرب، كما كان سبباً في فَتح الأقطار، واتِّساع عُمران الدولة الإسلاميّة؛ ولهذا كان زعماء مكّة المُعاندون الجاحدون يمنعون النبيّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم من قراءة القرآن الكريم على الناس، وقد ذُكِر فِعلهم هذا في قوله تعالى: ” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَـذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ “(سورة فصلت: 26)(25).

خاتمة :

لا غناء للمسلم عن الاهتمام بالكتاب العزيز مظهرا ومخبرا، عرضا وجوهرا ، لأنه كتاب ربه ورسالته إليه ، ودستوره الذي ينبغي أن يعيش له وعليه ، ومنه يستمد القوة والعون على القيام بأعباء الحياة المنوطة به . ولأنه حبل الخالق الممدود إليه ، وجب عليه التمسك به إن أراد النجاة في بحر هذه الحياة ، المتلاطمة الأمواج ، المتفرعة السبل و المتشعبة المسالك ، إذ لا ينجي من مهالك دروبها ، و وعورة مسالكها، سوى العالم بحقائقها، الذي أوصى بالسير على خطى نبيه المصطفى ، الهادي إلى سبيل الهداية والرشاد ، الآمر بالاعتصام بالقرآن الكريم ، وهو القائل صلى الله عليه وسلم : ” القرآن شافع مشفع ، وماحل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار”(26). ولن يصل المسلم بالقرآن الكريم لهذه المرتبة إلا إذا تحقق ( ما وسعه ذلك) بما ذكر أعلاه في تعامله مع الكتاب الخالد .

الهوامش :

(1) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، د القرضاوي ، دار الشروق ط 5 / 2005م ، ص 10 .

(2) السابق .

(3) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، د القرضاوي ، دار الشروق ط 5 / 2005م ، ص 11-12

(4) رواه ابن منده، في الإيمان لابن منده، عن القاسم بن عوف الشيباني، الصفحة أو الرقم: 106، إسناده صحيح

على شرط مسلم.

(5) مجدي الهلالي (2008)، تحقيق الوصال بين القلب والقرآن (الطبعة الأولى)، القاهرة: مؤسسة اقرأ للنشر

والتوزيع والترجمة، صفحة 87.

(6) متفق عليه : اللؤلؤ و المرجان (466) .

(7) متفق عليه واللفظ لمسلم.

(8) رواه الترمذي (2926) وقال : حسن غريب .

(9) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، د القرضاوي ، دار الشروق ط 5 / 2005م ، ص 169 .

(10) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، د القرضاوي ، دار الشروق ط 5 / 2005م ، ص 170 .

(11) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، د القرضاوي ، دار الشروق ط 5 / 2005م ، ص 175-176 .

(12) انظر كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، د القرضاوي ، دار الشروق ط 5 / 2005م ، ص 187 . والحديث

أخرجه الترمذي وقال عنه : حسن صحيح .

(13) مجدي الهلالي، العودة إلى القرآن لماذا وكيف، صفحة 95-96. بتصرّف.

(14) محمد المقدم، سلسلة علو الهمة، صفحة 17، جزء 18.

(15)  حسين الحَلِيمي (1979)، المنهاج في شعب الإيمان (الطبعة الأولى)، دار الفكر، صفحة 210، جزء 2.

(16) رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن البر اء بن عاز ب، الصفحة أو الرقم: 5011، صحيح.

(17) تقيّ الدين السبكي، قضاء الأرب في أسئلة حلب، مكة المكرمة: المكتبة التجارية، صفحة 381-382.

بتصرّف .

(18) سعيد القحطاني ، نُورُ الإِيمان وظلمات النِّفَاق في ضوء الكتاب والسنة، الرياض: مطبعة سفير، صفحة 27.

(19) النووي (1994)، التبيان في آداب حملة القرآن (الطبعة الثالثة)، بيروت-لبنان: دار ابن حزم، صفحة 79.

(20) محمد عو يضة ، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 414، جزء 9.

(21) النووي (1994)، التبيان في آداب حملة القرآن (الطبعة الثالثة)، بيروت  لبنان: دار ابن حزم، صفحة 72.

(22) خالد المصلح، دروس للشيخ خالد بن عبد الله المصلح، صفحة 10، جزء 2. بتصرّف

(23) مصطفى العدو ي، سلسلة التفسير لمصطفى العدو ي، صفحة 14، جزء 38.

 (24) أحمد الطيار، حياة السلف بين القول والعمل (الطبعة الأولى)، الدمام- المملكة العربية السعودية: دار ابن

الجوزي، صفحة 203.

(25) عبد الرزاق البدر (1996)، زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه (الطبعة الأولى)، الرياض-المملكة

العربية السعودية: مكتبة دار القلم والكتاب، صفحة 183.

 (26) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير10/198 ، 10450 ، وأبو نعيم في الحلية 4/108 بنحوه .

ومعنى (ماحل مصدق) أي : شاهد مصدق عند الله .

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M